حين انفتل من صلاته، وتلا التسبيحات والأذكار الواردة بعد الصلاة، وهم بالنهوض، أمسك به جاره الذي صلى إلى جانبه، واستمهله القيام، وسلم عليه، وأظهر قدرا من البشر والحفاوة اللازمة، والتي عادة تصحب الداعية اللبق(!) إنه يحسن الاستفتاح، ولا يفوت الفرصة!
- جزاك الله خيرا، وشكرا، لقد سررت أني رأيتك في المسجد؛ فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه!
- وأنت جزاك الله خيرا، ولكن متى كان المسجد حكرا على أحد، وهل كان وجودي في المسجد شيئا مستغربا أو طارئا، حتى تعلن عن سرورك؟
- أنا هكذا بطبعي أفرح بالخير للآخرين، ولذا أحببت أن أنبهك على بعض الملحوظات في صلاتك، خاصة أنه يبدو أنك حريص على الامتثال وتطبيق السنة!
- هات ما عندك!
قالها صاحبنا بضجر لم يدركه الآخر، الذي انطلق يدون ملحوظاته، ويتحدث عن طريقة القيام والقعود والركوع والسجود وتفاصيل العبادة بما استكمل معه عشر ملحوظات، أخذها على جاره في الصلاة!
ثم ختم قائلا بابتسام:-
تلك عشرة كاملة!
التفت الرجل الغريب، وسأل صاحبه بحدة:
- وماذا عنك؟
- أنا بحمد الله من طبعي أتقبل النصيحة، وأعرف أنني بشر يخطئ ويصيب، لست ملاكا، ولا حتى عالما أو فقيها، فأنا إنسان بسيط، وأرجو ألا يمنعني من قبول الحق مانع .. وذات مرة نصحني أحد طلابي؛ فقبلت منه وشكرته!
أحس محدثه بأن الرجل مليء بالكبر المغلف؛ فهو يتحدث بلغة (أنا)، ويثني على نفسه بهذه اللغة المدوية، ويؤكد بشريته، وكأن الأمر مشكل يحتاج إلى تأكيد، وينفي الملائكية، وعلى سبيل التواضع ينفي العلم، ويعبر بالبساطة، وحتى يحكم اللغة فهو يرجو ألا يمنعه من قبول الحق مانع .. ويتحدث عن «طلبة» إذن هو يعترف بالأستاذية والمشيخة بلا وعي حين ينفيها بلسانه!
أي ثناء على النفس يقدر أن يقوله فوق هذا، ولكنه ثناء مدهون بلغة التواضع، ومثل هذا المدخل الشرير على النفس من أصعب الأسرار التي يعز على صاحبها كشفها ومعالجتها.
إنك تحاول أن توجه نظره إلى عمق نفسي في عقله الباطن، وتحمله على أن يراقب نفسه، ويلحظ تغولها وتسلطها، وأنها تكيل بمكيالين، ما بين ذاتها وبين الآخرين، أو بين من تحب وتوافق، ومن تكره أو تخالف، أو بين ما تألف وتعرف؛ فيسهل عليها قبوله وتسويغه، وما تنكر ولا تعرف؛ فتميل إلى رده أو التردد بشأنه، ولو كان مألوفا مقبولا عند آخرين، وكيف تتعامل أحيانا حتى مع النص الشرعي بهذه الانتقائية؛ فتحتج بنص وتكرره وتعظمه، ويسهل عليها تأويل نص آخر، لأنها اعتادت على تأويله ولم يكن له عندها الصدارة.
سرح الرجل الغريب في هذه المتاهة التي يقل سالكوها ويكثر منكروها، وردد في نفسه:
مررت على وادي السباع ولا أرى
كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه تئية
وأخوف إلا ما وقى الله ساريا
ثم التفت إلى صاحبه، وقال:
أعظم خطئك عندي أنك واقف في صلاتك بين يدي ربك، وقلبك يسرح في واد آخر؛ لقد أخللت بروح الصلاة، وأتيت على خشوعها، فلا أظن قلبك حاضرا وهو يراقب جاره، ويحسب عليه حركاته وسكناته، ويستجمع أقوال المصنفين والفقهاء في القيام والقعود والركوع والسجود، ويستذكر راجحها ومرجوحها حسب دراسته وبحثه.. وينتظر أن تقضى الصلاة ليلتفت إلى جاره ويحاسبه على مخالفاته.
لم يرق هذا الحديث لمحاوره ومجاوره .. واستنتج منه أنه لم يتقبل النقد، ولذا واجه النقد بمثله، ثم ثنى بأن القول بوجوب الخشوع في الصلاة فيه خلاف شهير كبير بين الفقهاء، وهو وإن قال به أبو حامد الغزالي، ومال إليه ابن تيمية، إلا أن أكثر الفقهاء لا يرونه.
لم يعد هم صاحبه أن يرد عليه، لقد انتقل تفكيره إلى أفضل طريقة للانصراف، وعدم تفويت موعده الضروري دون أن يسترسل الحديث ما بين النقد ونقد النقد، وما بين الهجوم والدفاع بواسطة هجوم مضاد.
وكم للنفس من أحكام وسطوات ودوافع خفية؛ كما قال ابن تيمية، هي مثل الشامة في ظهر الإنسان، تعيش معه طيلة عمره دون أن يراها، وطوبى لمن جعل جزءا من رؤيته لمطالعة عيبه، وطوبى لمن شغله عيبه عن بعض عيوب الناس!.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة
- جزاك الله خيرا، وشكرا، لقد سررت أني رأيتك في المسجد؛ فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه!
- وأنت جزاك الله خيرا، ولكن متى كان المسجد حكرا على أحد، وهل كان وجودي في المسجد شيئا مستغربا أو طارئا، حتى تعلن عن سرورك؟
- أنا هكذا بطبعي أفرح بالخير للآخرين، ولذا أحببت أن أنبهك على بعض الملحوظات في صلاتك، خاصة أنه يبدو أنك حريص على الامتثال وتطبيق السنة!
- هات ما عندك!
قالها صاحبنا بضجر لم يدركه الآخر، الذي انطلق يدون ملحوظاته، ويتحدث عن طريقة القيام والقعود والركوع والسجود وتفاصيل العبادة بما استكمل معه عشر ملحوظات، أخذها على جاره في الصلاة!
ثم ختم قائلا بابتسام:-
تلك عشرة كاملة!
التفت الرجل الغريب، وسأل صاحبه بحدة:
- وماذا عنك؟
- أنا بحمد الله من طبعي أتقبل النصيحة، وأعرف أنني بشر يخطئ ويصيب، لست ملاكا، ولا حتى عالما أو فقيها، فأنا إنسان بسيط، وأرجو ألا يمنعني من قبول الحق مانع .. وذات مرة نصحني أحد طلابي؛ فقبلت منه وشكرته!
أحس محدثه بأن الرجل مليء بالكبر المغلف؛ فهو يتحدث بلغة (أنا)، ويثني على نفسه بهذه اللغة المدوية، ويؤكد بشريته، وكأن الأمر مشكل يحتاج إلى تأكيد، وينفي الملائكية، وعلى سبيل التواضع ينفي العلم، ويعبر بالبساطة، وحتى يحكم اللغة فهو يرجو ألا يمنعه من قبول الحق مانع .. ويتحدث عن «طلبة» إذن هو يعترف بالأستاذية والمشيخة بلا وعي حين ينفيها بلسانه!
أي ثناء على النفس يقدر أن يقوله فوق هذا، ولكنه ثناء مدهون بلغة التواضع، ومثل هذا المدخل الشرير على النفس من أصعب الأسرار التي يعز على صاحبها كشفها ومعالجتها.
إنك تحاول أن توجه نظره إلى عمق نفسي في عقله الباطن، وتحمله على أن يراقب نفسه، ويلحظ تغولها وتسلطها، وأنها تكيل بمكيالين، ما بين ذاتها وبين الآخرين، أو بين من تحب وتوافق، ومن تكره أو تخالف، أو بين ما تألف وتعرف؛ فيسهل عليها قبوله وتسويغه، وما تنكر ولا تعرف؛ فتميل إلى رده أو التردد بشأنه، ولو كان مألوفا مقبولا عند آخرين، وكيف تتعامل أحيانا حتى مع النص الشرعي بهذه الانتقائية؛ فتحتج بنص وتكرره وتعظمه، ويسهل عليها تأويل نص آخر، لأنها اعتادت على تأويله ولم يكن له عندها الصدارة.
سرح الرجل الغريب في هذه المتاهة التي يقل سالكوها ويكثر منكروها، وردد في نفسه:
مررت على وادي السباع ولا أرى
كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه تئية
وأخوف إلا ما وقى الله ساريا
ثم التفت إلى صاحبه، وقال:
أعظم خطئك عندي أنك واقف في صلاتك بين يدي ربك، وقلبك يسرح في واد آخر؛ لقد أخللت بروح الصلاة، وأتيت على خشوعها، فلا أظن قلبك حاضرا وهو يراقب جاره، ويحسب عليه حركاته وسكناته، ويستجمع أقوال المصنفين والفقهاء في القيام والقعود والركوع والسجود، ويستذكر راجحها ومرجوحها حسب دراسته وبحثه.. وينتظر أن تقضى الصلاة ليلتفت إلى جاره ويحاسبه على مخالفاته.
لم يرق هذا الحديث لمحاوره ومجاوره .. واستنتج منه أنه لم يتقبل النقد، ولذا واجه النقد بمثله، ثم ثنى بأن القول بوجوب الخشوع في الصلاة فيه خلاف شهير كبير بين الفقهاء، وهو وإن قال به أبو حامد الغزالي، ومال إليه ابن تيمية، إلا أن أكثر الفقهاء لا يرونه.
لم يعد هم صاحبه أن يرد عليه، لقد انتقل تفكيره إلى أفضل طريقة للانصراف، وعدم تفويت موعده الضروري دون أن يسترسل الحديث ما بين النقد ونقد النقد، وما بين الهجوم والدفاع بواسطة هجوم مضاد.
وكم للنفس من أحكام وسطوات ودوافع خفية؛ كما قال ابن تيمية، هي مثل الشامة في ظهر الإنسان، تعيش معه طيلة عمره دون أن يراها، وطوبى لمن جعل جزءا من رؤيته لمطالعة عيبه، وطوبى لمن شغله عيبه عن بعض عيوب الناس!.
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة